الخليج والدور الإقليمي
سنوات مرت منذ أن قرأت عبارة لرئيس وزراء لبنان الراحل "صائب سلام" في مقابلة له مع إحدى المجلات حين ذكر عبارة قال فيها "أنا أفتخر بالدول الرجعية!"، لا أتذكر من تلك المقابلة إلا هذه العبارة، التي قابلها كثير من أبناء جيلي في ذلك الوقت بالاستهجان! إذ كيف يقول رئيس دولة الحرية والديمقراطية (لبنان) مثل هذه العبارة، والتي لا تتفق مع تلك المرحلة التي كانت تموج ببقايا الحالة الثورية العربية، وكانت كلمة "الرجعية" تهماً تلصق سياسياً ببعض الدول، ومن بينها دول الخليج العربي، التي كانت تشق طريقاً للوجود بين دول العالم وهي تحمل هذه "التهمة "؟!
مرت السنوات، وتغير كل شيء في الحياة العربية، لتصبح الدول "الرجعية" في صدارة الدول لا على المستوى العربي فقط، بل على المستوى الإقليمي، فقد استطاعت أن تحقق كثيراً من الأهداف التي رسمتها لنفسها في مجال التنمية الوطنية، والاستقرار السياسي والحضور الدولي، بل أصبحت هذه الدول هي المحور الذي تدور حوله الحلول لكثير من المشكلات الإقليمية.
فعلى الرغم من كل ما يوجه لمنظومة مجلس التعاون الخليجي، إلا أنها تبقى أكثر منظومة عربية متماسكة في بنائها وتكوينها، وعملها المشترك، حيث لم تؤد الاختلافات في الآراء والمواقف لدولها إلى تعطيل هذه المنظومة أو إلغاء دورها، بل إن دول المجلس مجتمعة أو متفرقة استطاعت أن تقوم بدور إقليمي واضح ومؤثر في حل مشكلات الإقليم، بدأ بالدور الذي مارسته منذ بداية التسعينيات في حل مشكلة الحرب الأهلية اللبنانية، مروراً بالدعم السياسي والمادي لاستقرار هذا البلد وانتهاء باتفاق الدوحة الذي سحب فتيل حرب، كانت ستعيد لبنان إلى أُتون الصراع الأهلي، ثم مارست دول المجلس دوراً في إطفاء حالات الاشتعال في أكثر من موقع عربي كان آخرها حل الأزمة السياسية في اليمن، تلك الأزمة التي كادت تودي باليمن إلى مهاوي الردى. ففي بلد "متخم" بالسلاح والاختلافات، فإنه لا يهم من يطلق الرصاصة الأولى، لكن المهم من يوقف أزيز الرصاص بعد ذلك.
وقد كان اليمن على شفا الولوج إلى حرب لا يعرف أحد من أهله إلى أين ستنتهي بهم تلك الحرب، ولذا فإن من يرى أن المبادرة الخليجية لحل الأزمة اليمنية قد أجهضت "الحلم الثوري"، كما يحاول البعض أن يرسم الصورة على غير حقيقتها، فإن مثل هؤلاء لا يعلمون أن هذه المبادرة قد حقنت دماء الآلاف من اليمنيين ووضعتهم على خريطة طريق الخروج من أزمتهم بما يتفقون عليه، وهي الخريطة التي يرفض النظام السوري أن يركن إليها، أو يقبل بها بعد أن تحولت هذه المبادرة إلى مبادرة عربية، ثم دولية.
فدول المجلس التي كانت ترتبط بأقوى العلاقات مع سوريا، هالها ما آلت إليه الأوضاع في سوريا، فسعت جاهدة على المستوى الفردي والجماعي لثني النظام السوري عن مواجهة شعبه، والدخول في عملية مصالحة وطنية تحقن دماء السوريين، وتحفظ لهم استقرارهم. لكن الرفض الذي لقيته تلك المحاولات لم يمنع دول المجلس من العمل من خلال الجامعة العربية لحل هذه المشكلة.
وعلى الرغم مما لقيته المبادرة العربية، فإن هذه الدول مازالت تعمل على أن تخرج سوريا من أزمتها السياسية وبما يجنبها الدخول في صراع أهلي، قد تمتد آثاره إلى دول باقي المنطقة.
وإذا كانت دول المجلس تقوم بهذا الدور في إغلاق ثقوب الأزمات، فإن دورها الإقليمي لم يتوقف على ذلك، بل سعت لتجنيب المنطقة الدخول في صراعات وحروب جديدة. فتجربة العقود الثلاثة التي مرت بها المنطقة، جعلتها تختط لنفسها سياسة إقليمية تقوم على التقليل من المشكلات مع الجوار الإقليمي إلى الحد الأدنى مع احتفاظها بحقوقها ودورها الإقليمي.
ولعل الموقف من إيران يشكل صورة لهذا الدور، فعلى الرغم من الخلاف بين دول المنطقة وإيران، وخاصة مع إصرار الأخيرة على استمرار احتلالها جزر الإمارات الثلاث، والتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وتعريض الأمن الإقليمي للتهديد، إلا أن دول المجلس لم تعمل على استثمار المواجهة بين إيران والمجتمع الدولي، بل عملت من خلال علاقاتها الدولية على تجنيب المنطقة مزيداً من الحروب، وأعلنت في أكثر من مناسبة رفضها الحرب على إيران، ودعتها للدخول في حوار جاد مع المجتمع الدولي، حول برنامجها النووي الذي يشكل تهديداً لدول المنطقة.
وإذا كان هذا دور دول المنطقة على مستوى الجوار، فإن دورها في العلاقات الدولية قد تجاوز الإقليم، وتعزز من خلال العلاقات الجيدة التي استطاعت أن تقيمها مع مختلف دول العالم، حيث استطاعت خلال السنوات الأخيرة أن تمتد بعلاقاتها إلى مناطق بعيدة عنها كدول أميركا الجنوبية وبعض الدول الآسيوية، مما يمهد لدور دولي لهذه المجموعة يستطيع أن يضع دول المنطقة في موقع التأثير في صنع القرار الدولي لا مجرد المشاركة فيه.